قالوا: فإن تصرف فيه الحس المشترك، فيحتاج إلى تعبير وإن لم يتصرف فيه فلا يحتاج إلى تعبير.
الثاني: أن يرد على الحس المشترك، صور المحسوسات بالحواس الظاهرة مما ارتسم في الخيال، أثناء اليقظة، أو يرتسم فيه مما يوجبه مرض كثوران خلط، أو تغير مزاج.
والوجه الأول عندهم هو سبب الرؤيا الصادقة.
والوجه الثاني: هو سبب الرؤيا الكاذبة .
الرد:
هذا القول لا شك في بطلانه وذلك من وجوه ويرجع في ذلك موقع الاحلام.
أولا: فيما يتعلق بقولهم في سبب الرؤيا الصادقة، وأنها تأتي نتيجة ارتسام
الصور في الحس المشترك الذي يأخذها من النفس الناطقة والتي تأخذ ذلك من العقل الفعال. وهذا قول باطل لأنه لا دليل عليه من النقل ولا من العقل، فلم يرد عن طريق الوحي، والعقل لا يدرك هذه الأشياء. وعامة ما يعتمدون عليه هو التجويز الذهني .
ثانيًا: قولهم في الوجه الثاني أن حصول الرؤيا الكاذبة بسبب الأخلاط.
قال ابن العربي المالكي رحمه الله في رده عليهم: “تقسيمه – صلى الله عليه وسلم – الرؤيا ثلاثة أقسام هي قسمة صحيحة مستوفية للمعاني، وهي عند الفلاسفة على أربعة أقسام بحسب الطبائع الأربع .
وقد بينا في كل كتاب، ونادينا على كل باب وصرخا على الوهاد والأنقاب ، بأنه لا تأثير للأخلاط .
وقال المازري رحمه الله بعد أن ذكر قول الفلاسفة السابق: “وهذا مذهب وإن جوزه العقل وأمكن عندنا أن يجري الباري جلت قدرته العادة بأن يخلق مثلما قالوه عند غلبة هذه الأخلاط فإنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة والقطع في موضع التجويز غلط وجهالة، هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط على جهة الاعتياد، وأما إن أضافوا الفعل إليها فإنا نقطع بخطأهم، ولا نجوز ما قالوه، إذ لا فاعل إلا الله سبحانه .
ثم قال: «ولبعض أئمة الفلاسفة تخليط طويل في هذا، وكأنه يرى أن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالمنقوش، وكأنه يدور بدوران الكرة، فما حاذى بعض النفوس منه انتقش فيها، وهذا أوضح فسادًا من الأول مع كونه تحكما بما لم يقم عليه برهان ..» .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله اضطراب الناس في الرؤى، ثم ذكر قولاً قريبًا من قول الفلاسفة وإن خالفه من بعض الوجوه، ولم ينسبه إلى أحد، ثم رد عليه حيث قال: «فمن قائل: إن العلوم كلها كامنة
في النفس، وإنما اشتغالهم بعالم الحس يحجب عنها مطالعتها، فإذا تجردت بالنوم رأت منها بحسب استعدادها ولما كان تجردها بالموت أكمل كانت علومها ومعارفها هناك أكمل، وهذا فيه حق وباطل فلا يرد كله، ولا يقبل كله، فإن تجرد النفس يطلعها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرد، لكن لو تجردت كل التجرد لم تطلع على علم الله الذي بعث به رسوله – صلى الله عليه وسلم – وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية، والأمم الخالية وتفاصيل المعاد، وأشراط الساعة، وتفاصيل الأمر والنهي، والأسماء والصفات والأفعال وغير ذلك مما لا يعلم به إلا الوحي، ولكن تجرد النفس عون لها على معرفة ذلك، وتلقيه من معدنه أسهل وأقرب وأكثر مما يحصل للنفس المنغمسة في الشواغل البدنية» .
ومن الأقوال التي ذكرها ابن القيم رحمه الله ولم ينسبها لأحد ورد عليها وهي قريبة من قول الفلاسفة السابق من بعض الوجوه.
أن هناك من قال: بأن الرؤى كلها علوم وعقائد في النفس تظهر لصاحبها عند انقطاع نفسه عن الشواغل البدنية بالنوم.
قال ابن القيم رحمه الله في رده على هذا القول: “وهذا عين الباطل والمحال، فإن النفس لم يكن فيها قط معرفة هذه الأمور” .
القول الرابع: قول أهل الحق أهل السنة والجماعة:
فقالوا: لا نعدوا قول نبينا – صلى الله عليه وسلم – فقد بين الرؤيا بيانًا واضحًا شافيًا فقسمها إلى ثلاثة أقسام: رؤيا حق من الله عز وجل، والله أعلم بكيفية ذلك، ورؤيا باطلة فهي أضغاث أحلام من تهويل الشيطان وتحزينه وتمثيله لابن آدم، أو مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام.
فقد أخرج الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الرؤيا ثلاث، فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان» .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» .
وفي أحاديث أخرى يقسم – صلى الله عليه وسلم – الرؤيا إلى قسمين كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان ..» .
قال ابن عبد البر رحمه الله: “وجملة القول في هذا الباب أن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة، وأن التصديق بها حق، وفيها من بديع حكمة الله ولطفه ، ما يزيد المؤمن إلى إيمانه. ولا أعلم بين أهل الدين والحق، من أهل الرأي والأثر خلافًا فيما وصفت ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد، وشرذمة من المعتزلة .
فنحن لا نقول كما تقول المعتزلة أن الرؤى كلها خيالات باطلة لا حقيقة لها، ولا كما تقول الفلاسفة أنها من فعل الطبائع بل نقول كما يقول ربنا عز وجل: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] وكما يقول نبينا – صلى الله عليه وسلم – «الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان».
وفي بيان حقيقة الرؤيا الصادقة وأنها حق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من رآني في المنام فقد رآني حقًا، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» هو كما قال – صلى الله عليه وسلم – رآه في المنام حقًا، فمن قال: ما رآه في المنام حقًا فقد أخطأ، ومن قال: إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية بالواسطة المقيدة بالنوم فقد أخطأ، ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك .
وفي مواضع متعددة يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن ما يراه النائم في نومه عبارة عن أمثال مضروبة له.
فيقول في كتابه منهاج السنة النبوية: “والنائم يرى في المنام إنسانًا يخاطبه ويشاهده، ويجري معه فصولاً، وذلك المرئي قاعد في بيته، أو ميت في قبره، وإما رأى مثاله .
وفي كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان يقول رحمه الله ما ملخصه:
إن النائم يرى الأشياء في منامه ولها وجود وتحقق، ولكنها أمثلة فلما عزب عقله في أثناء النوم ظنها الرائي نفس الحقائق كالذي يرى نفسه في مكان آخر يكلم أمواتًا ويكلمونه، ويفعل أمورًا كثيرة، وهو في النوم يجزم بأنه نفسه الذي يقول ويفعل؛ لأن عقله عزب عنه، وتلك الصورة التي رآها مثال صورته لكن غاب عقله عن نفسه، حتى ظن أن ذلك المثال هو نفسه، فلما ثاب إليه عقله علم أن ذلك مثالات.
ومن الناس من لا يغيب عقله؛ بل يعلم أن ذلك في المنام، وهو كالذي يرى صورته في المرآة، أو صورة غيره .
وقد ذكر قريبًا من ذلك في كتابه قاعدة في المعجزات والكرامات .
فإذا كانت الرؤى عبارة عن أمثلة وأحاديث نفس، فإنه قد ورد في بعض تعاريف العلماء كلمات تحتاج إلى تفصيل فمن ذلك أن منهم من يعرف الرؤيا بأنها إدراكات مخلوقة أو اعتقادات مخلوقة، فهل هذا التعريف صحيح أو لا؟ .
قال ابن العربي رحمه الله في حقيقة الرؤيا: أنها إدراكات يخلقها الله في قلب العبد على يدي الملك أو الشيطان، إما بأمثالها، وإما أمثالاً بكناها، وإما تخليطًا، ونظير ذلك في اليقظة الخواطر فإنها تأتي على نسق في قصد، وتأتي مسترسلة غير محصلة، فإذا خلق الله من ذلك في المنام على يدي الملك شيئًا كان وحيًا منظومًا وبرهانًا مفهومًا.
ورد على من قال أن الرؤيا اعتقادات .
وقال المازري رحمه الله: «والمذهب الصحيح ما عليه أهل السنة وهو أن الله سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو تبارك اسمه يفعل ما يشاء ولا يمنعه من فعله نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه سبحانه جعلها علمًا على أمور أخر يخلقها في ثاني حال أو كان قد خلقها، فإذا خلق في قلب النائم اعتقاد الطيران، وليس بطائر فقصارى ما فيه أنه اعتقد أمرًا على خلاف ما هو عليه وكم في اليقظة ممن يعتقد أمرًا على غير ما هو عليه فيكون ذلك الاعتقاد علما على غيره كما يكون خلق الله سبحانه للغيم علمًا على المطر، والجميع خلق الله سبحانه، ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علمًا على ما يسره بحضرة الملك، أو بغير حضرة شيطان، ويخلق ضدها مما هو علم على ما يضر بحضرة الشيطان» .
وعلى هذا التعريف بعض الملحوظات:
أولا: قول المازري والمذهب الصحيح ما عليه أهل السنة، معلوم أن المازري أشعري العقيدة، وقد صرح بأشعريته في كتابه المعلم بفوائد مسلم، فيعني بأهل السنة الأشاعرة، فهو إذا ليس بحجة على أهل السنة والجماعة .
ثانيًا: قوله وهو أنه سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات.
أقول: أن القول بأن الرؤيا عبارة عن اعتقادات مخلوقة، هذه من الألفاظ المحدثة عند المتأخرين، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسألة هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟
وبين رحمه الله أنه يقال لمن قال ذلك، ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئًا من صفات الله وكلامه، كقوله لا إله إلا الله وإيمانه الذي دل عليه اسم المؤمن، فهو غير مخلوق، أو تريد شيئًا من أفعال العباد وصفاتهم فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة .
ومما يزيد هذا التعريف إشكالاً أن رؤية الأنبياء وحي، ولا يقال في الوحي أنه اعتقادات مخلوقة، كما تقوله المبتدعة عياذا بالله.
ثالثًا: قوله بأن الرؤيا التي تسر تخلق بحضرة ملك، والتي بضدها بحضرة شيطان هذا يحتاج إلى دليل من الشرع.
أما تعريف الرؤيا بأنها اعتقادات فقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وقال ابن القيم رحمه الله: «وإن من الرؤيا ما يكون من حديث النفس وصورة الاعتقاد بل كثير من مرائي الناس إنما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابق وغير المطابق» .