أخرج الإمام أحمد في مسنده، والبخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب» وهذا لفظ البخاري.
ولفظ أحمد، ومسلم «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب».
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب …» ورواه من طريق عبد الرزاق الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وساق مسلم إسناده .
فما معنى اقتراب الزمان الذي لا تكاد تكذب فيه رؤيا المؤمن؟ وأي زمان هو؟ وما معنى لا تكاد تكذب؟ وما الحكمة في تخصيص آخر الزمان بذلك؟
أولا: معنى اقتراب الزمان:
لأهل العلم: رحمهم الله في معنى الزمان ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن معنى اقتراب الزمان، أي اعتداله واستواء الليل والنهار، وذلك في فصلي الربيع والخريف.
قال أبو داود رحمه الله: (إذا اقترب الزمان يعني إذا اقترب الليل والنهار يعني يستويان) .
ويقول الخطابي رحمه الله: (والمعبرون يزعمون أن أصدق الرؤيا ما كان وقت الربيع ووقت اعتدال الليل والنهار) .
وهذا القول لا يصح لوجوه عدة منها:
1 – أن اعتدال الليل والنهار ليس له أثر ولا تعلق بصدق الرؤيا إلا على ما قالته الفلاسفة من أن اعتدال الزمان تعتدل به الأخلاط، وهذا مبني على تعليقها بالطبائع وهذا باطل.
2 – أن هذا القول يبعد تقييده بالمؤمن، فإن الوقت الذي تعتدل فيه الطبائع على زعمهم لا يختص بالمؤمن، قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله
3 – أن الاقتراب يقتضي التفاوت، والاعتدال يقتضي عدمه، فكيف يفسر الأول بالثاني، قاله القسطلاني رحمه الله .
4 – أن هذا القول باطل مردود بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «في آخر الزمان» وذلك قرب زمان الساعة ودنو وقتها.
يقول ابن العربي رحمه الله في رده لهذا القول: (وقد اغتر بعض الناس بهذا التأويل فقال به، والأصح أنه اقتراب يوم القيامة، فإنها الحاقة التي تحق فيها الحقائق فكلما قرب منها فهو أخص بها)
القول الثاني: قال المنذري رحمه الله: يحتمل أن يراد اقتراب الموت عند علو السن، فإن الإنسان في ذلك الوقت غالبًا يميل إلى الخير والعمل به، ويقل تحديثه نفسه بغير ذلك .
وهذا القول أيضًا فيه تكلف وبعد في فهم الحديث ويرده قوله – صلى الله عليه وسلم – في بعض روايات الحديث: «في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب».
القول الثالث: أن المراد قرب زمان الساعة ودنو وقتها.
وهذا القول هو الصحيح، إن شاء الله تعالى وقد جاءت النصوص بذلك فمنها:
1 – ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب …» ورواه من طريق عبد الرزاق الإمام أحمد، والترمذي والحاكم وساق إسناده مسلم .
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم «في آخر الزمان» صريح يفسر قوله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا اقترب الزمان» في أن المراد بذلك اقتراب زمن الساعة.
2 – أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقوم الساعة حتى – ثم ذكر بعض علامات الساعة ثم قال- ويتقارب الزمان» والمراد به اقتراب الساعة قطعًا.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق الشَّعَفَة» .
وللعلماء رحمهم الله: أقوال في المراد بقرب زمان الساعة، منها:
1 – أن المراد بذلك قلة البركة في الزمان .
كما يقول ابن حجر رحمه الله: وقد وجد في زماننا هذا، فإننا نجد من سرعة مر الأيام، ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا
2 – أن المراد بذلك تقارب أهل الزمان بسب توافر وسائل الاتصالات والمراكب الأرضية والجوية السريعة التي قربت البعيد .
3 – أن المراد بذلك هو قصر الزمان، وسرعته سرعة حقيقية وذلك في آخر الزمان كزمن الدجال.
4 – أن المراد بذلك استلذاذ الناس للعيش وتوافر الأمن، وغلبة العدل، وذلك أن الناس يستقصرون أيام الرخاء وإن طالت، وتطول مدة الشدة وإن قَصُرت كزمن المهدي وعيسى عليه السلام .
5 – أن المراد تقارب أحوال أهله في قلة الدين، حتى لا يكون منهم من يأمر بمعروف وينهى عن منكر، لغلبة الفسق، وظهور أهله، وذلك عند ترك طلب العلم خاصة، والرضا بالجهل، وذلك لأن الناس لا يتساوون في العلم، فدرجات العلم تتفاوت كما قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
قال ابن أبي جمرة رحمه الله: (يحتمل أن يكون المراد بـ”تقارب الزمان” قصرَه على ما وقع في الحديث «لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر» وعلى هذا فالقصر يحتمل أن يكون حسيًا، ويحتمل أن يكون معنويًا.
أما الحسي: فلم يظهر بعد، ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة وأما المعنوي؛ فله مدة منذ ظهر، يعرف ذلك أهل العلم الديني، ومن له فطنة من أهل السبب الدنيوي، فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العلم قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك، ويشكون ذلك، ولا يدرون العلة منه، ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان، لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك الأوقات، ففيها من الحرام المحض، ومن الشبه ما لا يخفى، حتى أن كثيرًا من الناس لا يتوقف في شيء، ومهما قدر على تحصيل شيء هجم عليه ولا يبالي.
والواقع أن البركة في الزمان، وفي الرزق، وفي البيت إنما تكون من طريق قوة الإيمان، واتباع الأمر، واجتناب النهي، والشاهد لذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].اهـ.
وإذا عرفنا أن المراد بتقارب الزمان في الحديث هو قرب زمان الساعة، فإن العلماء أيضًا اختلفوا في تحديد هذا الزمان على أقوال.
القول الأول: أن ذلك يقع إذا اقترب الساعة، وقبض أكثر العلم ودرست معالم الشريعة، بسبب الفتن وكثرة القتل، وأصبح الناس على مثل الفترة فهم محتاجون إلى مجدد ومذكر لما درس من الدين، كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء، لكن لما كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – آخر الأنبياء، وتعذرت النبوة في هذه الأمة، فإنهم يعرضون عند ذلك بالرؤيا الصادقة، التي هي جزء من أجزاء النبوة الآتية بالتبشير والإنذار.
ويؤيد هذا القول حديث أبي هريرة: «يتقارب الزمان ويقبض العلم» .
قاله ابن بطال، وإليه مال الحافظ ابن حجر رحمه الله.
القول الثاني: أن ذلك يقع عند قلة عدة المؤمنين، وغلبة الكفر والجهل والفسق على الموجودين فيؤنس المؤمن ويعان بالرؤيا الصادقة إكرامًا له وتسلية.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، وعلى هذين القولين لا يختص ذلك بزمان معين بل كلما قرب فراغ الدنيا وأخذ أمر الدين في الاضمحلال تكون رؤيا المؤمن الصادق أصدق .
القول الثالث: قيل إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه .
القول الرابع: أن ذلك مختص بزمان عيسى عليه السلام.
قال القرطبي في “المفهم” والمراد والله أعلم بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث زمان الطائفة الباقية مع عيسى عليه السلام بعد قتله الدجال، فقد ذكر مسلم في حديث عبد الله بن عمر ما نصه «فيبعث الله عيسى بن مريم فيمكث في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضه» الحديث .
قال: (فكان أهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالاً بعد الصدر الأول وأصدقهم أقوالاً فكانت رؤياهم لا تكذب) .
ولعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عنى الجميع والله أعلم .
والحاصل في ذلك أن كثرة صدق رؤيا المؤمن من علامات الساعة.
ثانيًا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: «لم تكد تكذب» وفي لفظ «لا تكاد تكذب» كاد أي: قرب.
وفيه إشارة إلى غلبة الصدق على الرؤيا، وإن أمكن أن شيئًا منها لا يصدق، والراجح أن المراد نفي الكذب عنها أصلاً؛ لأن حرف النفي الداخل على كاد ينفي قرب حصوله والنافي لقرب حصول الشيء أدل على نفيه نفسه .
ويدل على ذلك قوله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40].
ويوضح ذلك ابن أبي جمرة رحمه الله بأن عدم كذبها أنها تقع بينة واضحة لا تحتاج إلى تعبير فلا إشكال لأحد فيها ولا كذب، فيصدق عليها أنها لا كذب بخلاف ما قبلها فقد تحتاج إلى تعبير، وقد يخطئ المعبر في فهمها فيصدق لغة أن يقال كذبت رؤيا فلان وإن كانت في نفسها حقًا.
ثالثًا: ما الحكمة في اختصاص ذلك بآخر الزمان؟
يقول ابن أبي جمرة رحمه الله، (والحكمة في تخصيص ذلك بآخر الزمان أن المؤمن في ذلك الوقت يكون غريبًا كما في الحديث «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا» فيقل أنيس المؤمن ومعينه في ذلك الوقت فيكرم بالرؤيا الصادقة) .
وقال القرطبي رحمه الله: (فكان أهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالاً بعد الصدر الأول وأصدقهم أقوالاً فكانت رؤياهم لا تكذب)
وقيل إن الناس في ذلك الزمان على مثل الفترة محتاجين إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء، لكن لما كان نبينا خاتم الأنبياء وصار الزمان المذكور يشبه زمان الفترة عوضوا بما منعوا من النبوة بعده بالرؤيا الصالحة التي هي جزء من النبوة الآتية بالتبشير والإنذار .
ويقول ابن القيم رحمه الله: وهي – أي الرؤيا – عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها فيتعوض المؤمنون بالرؤيا.
وأما في زمن قوة نور النبوة، ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا، ونظر هذه الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصحابة، ولم تظهر عليهم لاستغنائهم عنها بقوة إيمانهم، واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم وقد نص أحمد على هذا المعنى .