يقول الإمام العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه “الروح”: (الرؤيا الصالحة أقسام) ثم عدد رحمه الله خمسة أقسام وهي:
منها إلهام يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب العبد:
وهو الكلام يكلم به الرب عبده في المنام، كما قال عبادة بن الصامت وغيره.
وهذا القسم من الرؤيا الصالحة يمكن أن يستدل له بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ويؤيد ذلك : (الوحي هو الإعلام السريع الخفي، إما يقظة وإما في المنام، فإن رؤيا الأنبياء وحي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) كما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصحاح وقال عبادة ويروى مرفوعًا «رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام …» فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء ويكون يقظة ومنامًا.
ويقول الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم رحمه الله في كتابه السنة: “باب ما ذكره عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أن الله تعالى يكلم عبده المؤمن في منامه، ثم ذكر حديث عبادة بن الصامت يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمكن أن يستدل أيضًا لهذا النوع من الرؤيا الصالحة، بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان» وغيره من الأحاديث التي تبين أن هناك نوعًا من الرؤيا يكون من الله.
ومنها: مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها:
أما كون الرؤيا عبارة عن أمثال: فقد سبق لنا بيان ذلك عند الحديث عن حقيقة الرؤيا.
أما مسألة ملك الرؤيا الموكل بها، فقد قال به جماعة من العلماء من المتقدمين والمتأخرين.
يقول عياض رحمه الله: “وقال كثير من العلماء إن للرؤيا ملكًا وكل بها يرى الرائي من ذلك ما فيه تنبيه على ما يكون له أو يقدر عليه من خير أو شر .
وكذا ذكرها ابن القيم رحمه الله في أكثر من كتاب وابن العربي وابن حجر رحمهم الله .
ويقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: “رؤيا المؤمن تقع صادقة لأنها أمثال يضربها الملك للرائي … .
ويرى بعض أهل العلم التوقف في إثبات ملك الرؤيا؛ لأنه يحتاج إلى دليل شرعي كما قال القرطبي رحمه الله .
ويمكن أن يستدل للقائلين بوجود ملك موكل رؤيا بالنصوص العامة التي ثبت حفظ الملائكة لنبي آدم، وأن للملك لمة وهي إيعاد الخير، فمن ذلك.
(أ) ما أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان وابن جرير من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد الشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]» الآية.
(ب) أخرج الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه والدارمي في سننه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» قال: يا رسول الله وإياك؟ قال: «وإياي إلا إن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» .
ومنها: التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم:
كما ذكرنا .
وقد ذكرت ذلك بحمد لله، في مسألة تلاقي أرواح الأحياء والأموات، وأقوال أهل العلم في هذه المسألة.
ومنها: عروج روحه -أي النائم- إلى الله سبحانه وخطابها له :
واستدل ابن القيم رحمه الله على هذا القسم من الرؤيا بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لقي عليًا فقال يا أبا الحسن ربما شهدت وغبنا، وشهدنا وغبت ثلاث أسألك عنهن فهل عندك علم؟
ثم ذكر الثالثة فقال: (والرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب، فقال نعم: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «ما من عبد ينام يمتلئ نومًا إلا عرج بروحه إلى العرش فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب» .
قال ابن منده – رحمه الله – هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره.
وقال أبو عبد الله بن منده أيضًا: وروي عن أبي الدرداء قال: (إذا نام الإنسان خرج بروحه حتى يؤتى بها العرش قال: فإن كان طاهرًا أذن لها بالسجود، وإن كان جنبًا لم يؤذن لها بالسجود، رواه زيد بن الحباب وغيره) .
وروى البيهقي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (تعرج الأرواح في منامها فما كان منها طاهرًا سجد أمام العرش، وما كان غير طاهر سجد قاصيًا) .
وفي مراسيل الحسن رحمه الله قال: (إذا نام العبد وهو ساجد، باهى الله به الملائكة يقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي جسده في طاعتي وروحه عندي) .
وسبق البحث في أن روح النائم تفارق جسده من وجه دون وجه كما قال تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42].
لكن مسألة السجود تحت العرش وعروج روح النائم إلى الله سبحانه تحتاج إلى دليل أصح وأصرح من هذه الآثار التي يعتريها بعض الضعف.
منها: دخول روحه- أي النائم – إلى الجنة ومشاهدتها وغير ذلك :
وهذا القسم يمكن أن يستدل له بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال لبلال عند صلاة الفجر: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت الليلة دف نعليك بين يدي في الجنة» قال بلال: (ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قول: (عند صلاة الفجر) فيه إشارة إلى أن ذلك في المنام لأن عادته أنه كان يقص ما رآه ويعبر ما رآه أصحابه بعد صلاة الفجر .
وقال الكرماني: “ظاهر الحديث أن السماع المذكور وقع في النوم، لأن الجنة لا يدخلها أحد إلا بعد الموت ، ويحتمل أن يكون يقظة, لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخلها ليلة المعراج، وأما بلال فلا يلزم من هذه القصة أنه دخلها، لأن قوله (في الجنة) ظرف للسماع ويكون الدف بين يديه خارجًا عنها .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معقبًا على كلام الكرماني: (ولا يخفى بعد هذا الاحتمال لأن السياق مشعر بإثبات فضيلة بلال، لكونه جعل كسب الذي بلغه إلى ذلك ما ذكره من ملازمة التطهر والصلاة، وإنما ثبت له الفضيلة بأن يكون رؤي داخل الجنة لا خارجًا عنها) .
وما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جنب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرتك فوليت مدبرًا» وعمر حين يقول ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالس عنده مع القوم فبكى عمر حين سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (أعليك بأبي أنت وأمي أغار يا رسول الله) .
وحاصل هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ذلك في المنام.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله (رأتني في الجنة) هذا وإن كان منامًا لكن رؤيا الأنبياء حق، ومن ثمَّ أعمل حكم غيرة عمر حتى امتنع من دخول القصر، وقد روى أحمد من حديث معاذ قال: «إن عمر في الجنة» وذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان ما يرى في يقظته أو نومه سواء، وأنه قال: «بينما أنا في الجنة: إذ رأيت فيها جارية، فقلت لمن هذا؟ فقيل لعمر بن الخطاب» .
ولهذا ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث في صفة الجنة .
وقال الحافظ: قوله «تتوضأ» يحتمل أن يكون على ظاهره ولا ينكر كونها تتوضأ حقيقة لأن الرؤيا وقعت في زمن التكليف، والجنة وإن كان لا تكليف فيها فذلك في زمن الاستقرار، بل ظاهر قوله «تتوضأ جانب القصر» أنها تتوضأ خارجة منه، أو هو على غير حقيقة، ورؤيا المنام لا تحتمل على الحقيقة بل تحتمل التأويل دائمًا، وقد ترجم عليه البخاري في كتاب التعبير باب الوضوء في المنام .
وأخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث بريدة رضي الله عنه قال: (أصبح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدعا بلالاً فقال: «يا بلال بمَ سبقتني إلى الجنة، ما دخلت الجنة قط، إلا سمعت خشخشتك أمامي، وإني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك فأتيت على قصر من ذهب مرتفع مشرف، فقل: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من العرب، قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر، قالوا لرجل
من المسلمين من أمة محمد، قلت: فأنا محمد. لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب» فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لولا غيرتك يا عمر لدخلت القصر» فقال: يا رسول الله ما كنت لأغار عليك, وقال لبلال: «بم سبقتني إلى الجنة» قال: ما أحدثت إلا وتوضأت وصليت ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «بهذا» .
قال الترمذي: “ومعنى هذا الحديث؛ أني دخلت البارحة الجنة، ويعني في المنام كأني دخلت الجنة، هكذا روي في بعض الأحاديث، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال – صلى الله عليه وسلم -: «رؤيا الأنبياء وحي» .
ويؤيد كون هذا الدخول وقع في منام، ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خَشْفة فقلت، من هذا فقال: هذا بلال …» الحديث .
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «دخلت الجنة، أو أتيت الجنة، فأبصرت قصرًا، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر بن الخطاب» الحديث .
وما أخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لشاب من قريش …» الحديث .
وما أخرجه الإمام أحمد ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدي فقلت: ما هذا؟ قالوا: الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك» .
وما أخرجه الإمام أحمد ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نمت فرأيتني في الجنة فسمعت صوت قارئ يقرأ فقلت: من هذا؟ فقالوا: حارثة بن النعمان» فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «كذلك البر، كذلك البر» وكان أبر الناس بأمه .
فلعل هذه الأحاديث تكون دليلاً لمن قال بدخول روح النائم إلى الجنة، وإن كان الدليل فيها محتملاً, لأن رؤية النائم قد تكون عبارة عن ضرب أمثال للنائم، ولكن كون الذي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد استدل البخاري بها على صفة الجنة، فإن هذا مما يقوي ما ذكره ابن القيم رحمه الله وإن كانت المسألة تحتاج إلى دليل صريح، والله أعلم بالصواب.